مقالات

نشدان الحرية في ديوان مقامات الوجد  للشاعرة ريم السيد.

  • كتب لمجد بن رمضان (جامعة ليون ٣ ، فرنسا)

مقدّمة:

نسعى في هذه الدراسة إلى تقديم قراءةٍ في ديوان “مقامات الوجد” للشاعرة السورية “ريم السيّد”. وقد لفتت انتباهنا فيه مسألة “الحرية”، حيث بدت كظاهرة بارزة في مواضع عديدة من الديوان. فهي تحضر باعتبارها أسمى قيمة إنسانيّة على الإطلاق[3] وكمبدأ تنظيميّ يتحكّم في معمار الديوان، أي يمكن أن نعتبرها عنصراً مهيمناً Dominante وفق اصطلاح بعض الشكلانيين[4].  ولا نتعامل في هذه الدراسة مع الحريّة كغرض شعري، فهي أبعد ما تكون عن ذلك، لأن الشاعرة عبّرت عنها بشكر مضمر في أغلب الأحيان، بل جعلتها كقاعدةٍ خلفيّةٍ للكتابة، فلا تظهر للعيان إلاّ بعد طول تأمّلٍ. ذلك أنّ الشعر الذي تقدّمه “ريم السيّد” من النوع الذي لا يبوح بأسراره كاملةٍ من أوّل قراءة. ولا يمكن الجزم أنّ روائح الحريّة تطالع القارئ بمجرّد تصفّح هذا المتن الشعري، إذ لا بدّ للمتعامل مع هذا النمط من الإبداع أن ينظر مليّاً في هيكل الديوان وفي اللغة التي نُسجت منها القصائد والتراكيب والصور البلاغية…إلخ. وقبل ذلك عليه أن يكون ملمّاً بالسياقِ الذي أحاط بنشأته، سواء كان زمن كتابة القصائد، أي المناسبات التي ألهمت صاحبته، أو “أفق الانتظار[5]” L’Horizon d’attente الذي يموضع فيه النصّ ككلٍّ. فالعملُ الشعريُّ في اعتقادنا لا ينشأ من فراغ، ولا من إرادة الشاعر في الكتابة فقط، وإنّما هو وليد ظروف محدّدة، اجتمعت معاً وفعلت فعلها فيه حتى يخرج لنا في الصورة التي هو عليه. وللمتلقي دور مهمّ في ذلك، فانتظاراته قد تُسهم، بشكل فعّالٍ، في اتخاذ القول الفنّي وجهة معيّنة.  لأنّ “تأثير الجمهور المتقبّل في الآثار الأدبيّة لا يقلّ، في شيء، عن تأثير مؤلفيها فيها، فالأديب يبدع أثره والجمهور المتقبّل يمنح هذا الأثر حياة أو يحكم عليه بالنسيان أو الموت” على حدّ قول حسين الواد[6]. وعليه فإنّ استدعاء مفهوم الحريّة عند الشاعرة كان، أوّلا، لدواعي فكريّة بالأساس، لأنّ روح العصر تفرض على المبدع والمتلقّي، معاً، إعادة التفكير في هذه المسألة، ثمّ ثانيا لدواعي فنيّة، لكونها تفرض نوعاً من الانسجام الدلالي في جسد القصيدة الواحدة وعلى امتداد الديوان. ودون مبدأ الحريّة، لا يمكن للشاعر أن يخوض مغامرة التجديد والتجريب.

  1. الديوان وسياق النشأة:

       الحريّة ليست مسألةً جديدةً في الأدب العربي أو حتى العالمي، بل يمكن الجزم أنّ الأدب هو، في جوهره، بحثٌ دؤوبٌ عن الحريّة والتحرّر أو الانعتاق والخلاص من قيود مادية أو معنويّة، أو حتى فنيّة. فهنالك شيء منها في المعلّقات كشعر عنترة، إذ جعل هذا الأخير القصيدة مطيّته للتحرّر من العبودية أكثر من قدراته في الفتوّة والفروسيّة. كما كانت عنوان التخلّص من الأغراض القديمة والبنية التقليديّة للشعر عند أبي نواس وغيره من الشعراء المحدثين في تلك القرون. هي أيضا قيمة قصوى في الشعر الوطني زمن الاستعمار ومع بروز حركات التحرّر الوطني في الدول المستعمرة، ولنا في ذلك أمثلة كثيرة لعلّ أبرزها أشعار أبي القاسم الشّابي. الحريّة هي المقصد الأساسي لحركة الشعر الحرّ عند السيّاب ونازك الملائك، وغيرهما ممّن انتموا إلى هذه المدرسة. حيث كانوا ينادون بتحرير القصيدة من النظام العمودي مع الإبقاء على التفعيلة. كذلك كان الشأن لروّاد قصيدة النثر يوسف الخال ومحمد الماغوط وأنسي الحاج، الذين طالبوا بالخروج نهائيّاً عن الأوزان العروضيّة. ومازال الشعراء في كامل أرجاء الوطن العربي في سعي حثيث إلى طلبٍ مزيد من الحريّات، سواء كانوا أفرادا أو منتظمين ضمن جماعات. وإذا شئنا التوسّع، قُلنا إنّ الرواية العربية الجديدة هي شكل آخر من أشكال التحرّر في الأدب من النموذج الجاهز والقوالب المحنّطة، نادى روّادها كصنع الله إبراهيم وإلياس خوري وعزّ الدين المدني بالكتابة على غير منوال. وكان هدفهم الأساسي يتمثّل في التحرّر من القوالب الجاهزة والتخطيط المسبق الذي فٌرض على الأدب لسنوات عديدة لدواعي غير أدبية في كثير من الأحيان. ولم يكن التحرّر فقط سمة تطبع الشكل في “الأدب الحديث”، بل امتدّت إلى المضامين. فغاية الأدباء في الأساس فكريّة، إذ كانوا يطمحون إلى تغيير أوضاعهم وأوضاع مجتمعاتهم. وقد وجد الكثيرون منهم في الهجرة مسلكاً لبلوغ مقاصده، ومن بينهم الشاعرة ريم السيّد، حيث لم تكن هجرة العربي في حقيقتها إلاّ ذروة السخط على أوضاع المجتمع الفاسدة، فقد انطوت على رفض لحياة البؤس والظلم والهوان وتلهّف على حياة الرغد والعدل والكرامة. كانت الحريّة، الحريّة السياسيّة والفكرية والدينيّة مطلبا بعيد المنال في مجتمع شرقي مُستعبد يحكمه التعسّف والاستبداد […] ومن هنا لم يكن المهجر متنفّسا للحرية المكبوتة في نفس المغترب فحسب ولكنّه كان منطلقا جديدا لمنازع التحرّر التي اتّسم بها المجتمع الغربي في العصور الحديثة. وهكذا بدا في وسع ذلك المغترب الساخط أن ينطلق في مهجره بما لم يستطع أن ينطلق بمثله في وطنه […] كلّ هذه الأسباب جعلت التحرّر طابع الأدب المهجري بصورة عامة والدعامة الوطيدة التي قام عليها سواء في شكله أو في مضمونه[7]

        ضمن هذا الأفق التاريخي الواسع صدر ديوان “مقامات الوجد” ليكون صرخةً أخرى تطالب بمزيد من الحريّة. فالديوان ينتمي من جهة إلى الشّعر الحديث ومن جهة أخرى إلى أدب المهجر. وقد ذكرت الشاعرة ذلك بصريح العبارة في المقدّمة، وقالت: بدأتُ الكتابة عام 2011 وأنا في غربة وعلى ترحال وسفر. وعند كل زيارة لِوحي الشعر كنت أرجوه أ تكون هذه زيارته الأخيرة وكنتُ أدعوه أن يعودني محمّلاً بالدهشة، بكنوز المجاز وبمفاتيح الإعجاز.مقامات الوجد هي تلك القوافي التي أبصرت النور على طريق السفر[8].

  • الحريّة كقاعدة في بناء الديوان:

     عند تأمّلنا في هذ الديوان، نلمس نفس الحريّة في مستوى هيكلي، حيث يبدو وكأنّه صُمّم على نحو مغاير للرائج والمألوف؛ إذ تمّ تقسيمه إلى فصول، وهو إجراء نادرٌ الحصول في الدواوين الشعريّة، عكس الرواية مثلا، وداخل كلّ فصل عددٌ ما من القصائد. عناوين الفصول هي في الأصل تأطير زماني ومكاني لكلّ مجموعة من القصائد، مثال ذلك: طريق الشمس إلى كان صيف 2011، دمشق شتاء 2012، طريق الشمس إلى روساس- إسبانيا صيف 2012 …إلخ. ثمّ ذيّلت كلّ قصيدة بتاريخ إنجازها. هذا التأطير في اعتقادنا إجراء محمودٌ، لأنّه يُساعدنا على بناء السياق وبالتالي نتجنّب إلى حدّ كبير الوقوع في سوء الفهم أو التأويل الخاطئ الذي لا يتناسب مع طبيعة النصّ، ولا مع مقاصد المؤلّفة. فهو شكلٌ من أشكال تجسير الفجوة التي قد تنشأ لسبب ما بين النصّ والمتلقّي.

     لقد كانت القصائد داخل هذا الديوان متنوّعة، فهي ليست ذات قالب أحادي، بل تجسّد إلى حدّ كبير سعى المؤلّفة للتخلّص من القالب الجاهز. فهي تخالف حتى النموذج الذي صنعته بنفسها. هنالك أيضا تفاوت من ناحية الكمّ: إذ نجد قصائد مطوّلة، نسبيّاً، وأخرى قصيرة. وفي جسد القصيدة الواحد نجد تفاوتاً في الأسطر: حيث صيغ البعضُ منها في شكل جملةٍ والبعض الآخر في شكل كلمةٍ أو كلمتيْن، كما نجد بعض الأسطر عبارةً عن بياض أي مجرّ تنقيط، مثال ذلك قولها في قصيدة عنوانها “عندما… تتبارز الأشواق”:

 اشتقتُكَ

شوق الحروفِ لإنجابِ قصيدة

شوق السطورِ لهمساتِ كلمة

صَمَتا قليلاً

ثم تَجادَلا طويلاً من يَشتاق أكثر

اشتقتُكَ شوقَ عاشقةٍ لضَمّة وقُبلة[9].       

      هذا الشكلُ من الكتابة يمنح هامشاً كبيراً من الحريّة للقارئ. فهو مليء بالفراغات[10]، حيث يتمّ الصمت في مواضع يستوجب فيها الكلام، ويتمّ تعويض ذلك بالتنقيط. هذا الإجراء الفنّي ابتدعه روّادُ حركة الشعر الحرّ والتقطته الشاعرة ريم السيّد. وهو نوعٌ من أنواع التحفيز الذي يتعمّده الشعراء تجاه القارئ، كي يُنشطون به خياله ويدفعونه إلى بناء تصوّرات عديدة عن المسكوت عنه واللاّ مُقال في القصيدة، وبذلك يُسهم إسهاماً فعليّاً في إعادة بنائها، فتتحقّق بذلك أبلغ لحظات التواصل بين النصّ والمتلقّي. 

    تحضر مسألةُ الحريّة في الصياغة التي اختارتها الشاعرةُ لعددٍ من عناوين القصائد. لكن ليس في هذه العناوين ما يُشير إلى المسألة إشارةً مباشرةً، بل لا يُفهم مقصد الشاعرة إلاّ بعد طول تأمّلٍ. ويمكن تقسيم هذه العناوين إلى مجموعتيْن: الأولى يحضر المعنى في بعض الألفاظ التي تستعمل مجازاً في اللغة للدلالة على الحريّة إذا قُرِأت منفردة، من قبيل: جناحات الهوى، بحور الأنين، طقوس ولادة، سفر وأمان بلقاء…إلخ. ففي بعض الألفاظ هنا ما يدلّ على مقصد الحريّة، كالجناح الذي يحيل على الطيران، والطيرانُ شكلٌ من أشكال التوق إلى التحرّر، كذلك البحر لما له من صفات الرحابة والتحرّر في مدى الرؤية، وحدث الولادة والسفر أيضا. الثانية تمّ الإحالة على معنى الحرّية من بعيد: حقائب الرحيل، لجوء، في حضن المنافي، هجرة السنونو فراديس. فكلّ العناوين تضمّنت معنى السفر أوالهروب من مكان إلى آخر. وليس أبلغ من السفر تعبيراً عن التوق إلى الحريّة وفكّ الأغلال التي تكبّل الإنسان في موطنه. 

      إنّ إلقاء نظرةٍ أوّلية على القصائد يؤكّد، على نحو جليّ، ما عثرنا عليه من معاني في قراءتنا للشكل العام للديوان. يظهر ذلك خاصّة في الإيقاع، حيث لجأت الشاعرةُ إلى التنويع سواء تعلّق الأمر بالإيقاع الخارجي، أي الوزن  le rythme، أو الإيقاع الداخليles figures de mots  ، وقد استعملت شكلاً آخر يمكن أن نصطلح عليه بالإيقاع النفسي. 

  • الإيقاع الخارجي:

     في هذا النمط من الإيقاع بدت الشاعرة متحرّرةً إلى حدٍّ كبيرٍ من الأوزان التقليديّة، حيث لم تنبنِ القصائدُ على البحور الخليليّة ولا على نمط قصيدة التفعيلة. لكنّها احتفظت بالقافية في بعض الأحيان دون أن تلتزم بها التزاماً تامّاً في كلّ الأسطر، كقولها:        

عطرُ

بوحِ صيفي.. وسرِّ الشتاء

نَغمةِ صبحي.. وهمسِ المساء

عطرٌ

يعزفُ لحنَ الوفاء

وينبض من نبعٍ دائم العطاء

يلمسُ

فيحتضنُ آلاف الورود

ويُرسل قُبلاً

ترسمُ زهراً على الخدود[11].  

       في هذا المقطع، وغيره من المقاطع، تبدأ الشاعرةُ بقافيةٍ، ثمّ تغيّرها أو تتخلّى عنها. وهو شكلٌ من أشكال التحرّر في التعامل مع الإيقاع، حيث تكسر الاسترسال الذي قد يُحدث شيئاً من الرتابة والملل لدى القارئ. فكأنّنا بها تعتمد عنصر المفاجأة داخل جسد القصيدة الواحدة. وهذا الإجراء هو من صميم ما عُرف بحركة التجريب التي طالت المسرح والرواية وامتدّ صداها إلى القصيدة[12]، حيث إنّ السّمة البارزة في ديوان مقامات الوجد تتمثّل في التخلّي عن كلّ ما هو متعارف عليه في كتابة الشعر، قديمه وحديثه، والسعي الحثيث نحو التجاوز.   

  • الإيقاع الداخلي:

     أمّا ما يُعرف بالإيقاع الداخلي، فقد شدّ انتباهنا ظاهرة بعينها وهي التكرار. وهو ظاهرة تأتي على ضروب شتّى، من أهمّها التكرار اللفظي والتكرار التركيبي، ويقع أحيانا دمجهما معا كقولها:

اشتقتُكَ

شوقَ النجمةِ لوجهِ القمر

شوق السكينةِ لرحيلِ الكَدَر

شوق الريحِ لحفيفِ الشجر

شوقَ الفصول لنضجِ الثمر

شوق الأزاميلِ للمسِ الحجر

شوق الرمالِ لعناقِ البحر

شوقَ الهَيْمانة لغيمٍ ومطر[13].

في هذا المقطع تكرارٌ للفظة “شوق”، حتى أصبحت اللفظة عبارة عن لازمة أو ركيزة في بناء السّطر الشعري. وإلى جانب ذلك كان تكرار مركّبين، مركّب بالإضافة يليه مركّب بالجرّ. إنّ أشكال التكرار هذه تحدث نغميّة في القصيدة، وتشدّها بالتالي إلى جنس الشعر رغم تحرّرها من الإيقاع العروضي التقليدي.

ج- الإيقاع النفسي:

إنّ ما اصطلحنا عليه بالإيقاع النفسي يحضر حين يغيب الإيقاع الخارجي والداخلي. فبعضُ القصائد في الديوان تخلّت تماماً عن كلّ تنغيم. فلا يربط النصّ بجنس الشعر إلاّ شكل الكتابة، أي الأسطر الشعريّة، وإحساس القارئ بأنّ ما يقرأه يُعدّ شعراً، كقولها:

يحدث أن تَستيقظَ في الليل

باكيةً

متسائلةً:

لماذا حلَّ بي كل هذا؟

فيجيب ضميرها الصاحي:

كنتِ صادقةً معي

ومعه..

ومعهم

قد يكون هذا جزاءكِ…[14]

إنّ الإيقاع هنا ينشأ نتيجة التفاعل بين القارئ والنصّ، اعتمادا على حاسّة البصر أوّلا، ثمّ على شعوره الداخلي في المحلّ الثاني. فالقصيدةُ ههنا تُحرّك إحساس الناظر إليها، وتبعث فيه نوعاً من الشعور بالتعاطف مع هذه التي تتساءل ليلاً عن مصيرها ولا يكون لها من مجيب إلاّ ضميرُها. هذا النمط من الإيقاع المتحرّر من كلّ الضوابط الشكليّة للشعر هو من صميم الثورة على الشعريّة التقليديّة وحتى الحديثة. وهو أمرٌ قلّما انتبه إليه الدارسون، لأنّ مفهومه زئبقيّ لا يُمكن محاصرته أو استنباط قواعد تتحكّم فيه. فهو راجع فقط إلى نفسيّة القارئ وذوقه. وفي تقديرنا يُعدّ الإيقاع النفسي أسمى أنواع الإيقاع في الشّعر. فهو يُجسّد بكيفيّة عجيبة أبلغ لحظات التواصل بين النصّ والمتلقّي دون أدنى حضور للوسائط الفنيّة الشكلية المتمثّلة في الظواهر الإيقاعية التي ذكرناها آنفا، إذْ يُعوّل الشاعرُ هنا فقط على اقتناع القارئ التلقائي بجماليّة المكتوب، وبانتمائه إلى جنس الشعر.

  • الحرّية قضية الديوان:

إنّ المسائل الشكليّة تُعدّ مقدّمةً لمحتوى القول الشعري. فقد كانت الحريّة قطب الرحى الذي تدور عليه مُجمل القصائد، مثلما كانت أحد أهمّ روافد البنية العامة للديوان. وقد وردت هذه القيمة بشكلٍ صريحٍ أحيانا، وبآخر مضمر أحيانا كثيرة لا يمكن اكتشافها بيسرٍ.

  • الإحالة المباشرة:

نلمسُ الحديث عن الحرّية في بعض التعابير والصور التي ترسمها الشاعرةُ من قبيل قولها:

اشتقتك […]

شوق السجينِ لسَعةِ النَّظر[15].

حيث تُشبّه الشوق إلى الحبيب بشوق السجين إلى الحرية. ولقد تمّ، في اعتقادنا، اختيار هذه الصورة بعناية للتدليل على مطلب الحريّة الذي تسعى إليه الشاعرة من الكتابة. فالغايةُ من التشبيه ليست فقط إفهام المرسل إليه مدى شوقها، بل تتجاوز ذلك لتبيّن أنّ هاجس الحريّة هي قيمة القيم الإنسانية. وقد وردت في مظهر آخر في الديوان، حين تقول:  

أفتحُ

نوافذَ الرحيل وأنتظر

بيدي حقيبةٌ فارغةٌ

وبرأسي تتصارعُ أسئلةٌ

مختلفةٌ في ظاهرِها

متشابهةٌ في معناها[16].

هنا تحضر الحرّية في صورة الشخص الذي يرغب في الرحيل. والرحيل أو الخروج عامّةً يقترن عادةً بالبحث عن الانعتاق من شيء ما. وقد تردّد معنى الرحيل على امتداد الديوان، وتمّ تكراره بشكلٍ يُلفت الأنظار. تقول:

ليتني في موسم الهجرات هذه

سنونوةٌ

لأبرم صفقةً جديدةً مع الرحيل[17].

 حيث يشعر المتلقيّ أنّ المتكلّمة في القصيدة في حالة أسر مادّي ومعنوي. فهي مُكبّلة بقيود المكان وبما فيه من محرّمات فكريّة تمنع عنها حريّة التفكير والإبداع. وقد عبّرت عن ذلك في موضع آخر من الديوان بشكلٍ مباشرٍ في قولها:

أريدُ أن أحيا.. كما أنا

أرجوكُم دَعوني

كلما وَجدتُ نفسي

على طرقاتِكم.. تُهتُ

وأَضَعتُموني

كلما حَشدتُ أشلائي

في فضاءاتِ أهوائِكم

بَعثرتُموني

مع آلامي ودموعي

وضجيجِ إخفاقاتي

  وصوتِ ضحكاتي

وقهقهةِ حروفي

اتركوني

اتركوني

كلما خرجتُ إلى النور

وَجدتُكم بعباءاتِ رغباتِكم

تَئِدونني

خُلقتُ ناقصةً

والكمالُ له سبحانه

بخطيئتي هذه..

أَفَلا تقبلونني؟[18] 

في هذه القصيدة تعبّر الشاعرة عن مدى معاناتها من القيود الفكرية للمجتمع الشرقي الذي يفرض، على المرأة خاصّة، الالتزام بحدود معيّنة حتى تُقبل كفرد من أفراده. فلا يمكن أن تعيش المرأة بكامل حريّتها، بل عليها أن تخضع وجوباً للعرف السّاري والسائد في المجتمع. وهو ما ترفضه “ريم السيّد”، وتسعى جاهدة إلى التخلّص منه، وإن كان ذلك عبر القول الشعري. وهذا ما يفسّر على نحو من الأنحاء ترديد لفظ الرحيل ومرادفاته على امتداد الديوان.

  • الإحالة غير المباشرة:

نتبيّن مسعى الشاعرة إلى الحرّية بطريقة غير مباشرة في بعض القصائد، من قبيل الإيغال في الخيال والابتعاد الواضح عن الواقعيّة، حيث يُصبح العالم الافتراضي بديلاً عن العالم الواقعيّ، لكونه أكثر رحابةً وحريّةً، تقول: 

  ارسُم تضاريسَ الجبال

ازرع على القممِ راياتِ انتصارك

ولوّن بالورودِ والفراشات والبلابل

هواء السهولِ والوديان

لا تنسَ

أن تبني قصراً أسطورياً

يتَّسع لأحلامك

تُخبّئ فيه أسراركَ وأغلى كنوزكَ[19].

إنّ المنطلق في هذا المقطع هو العجز عن تحقيق ما تصبو إليه الشاعرةُ في عالمها الحقيقي، لذلك ترحل بخيالها إلى عالم موازي. فما هو منشود يدلّ على ما هو موجود. فإذا كان ما تصبو إليه الشاعرة عالم يشبه الجنّة (Monde euphorique)، فإنّ ما تعيش فيه هو عالم الجحيم (Monde dysphorique).

ثمّة ظاهرة أخرى تلفت الانتباه في الديوان، وهي الإكثار من وصف الطبيعة: كالبحر والسماء والأزهار والطيور…إلخ. ومعلوم أنّ هذه الظاهرة يلجأ إليها الشعراء عادةً بحثاً عن الحريّة. فقد كان أبو القاسم الشّابي، على سبيل المثال، يحتفي، أيّما احتفاء، بالطبيعة ويلجأ إلى الغابة في شعره كلّما استشعر ضيق المكان ووحشة الإقامة مع الناس. وقد نسجت شاعرتنا الكثيرَ من قصائدها على هذا المنوال. فهي تجد في عناصر الطبيعة مساحات شاسعة من الحريّة. وتبتعد بذلك عن رتابة الحياة العامّة التي تتحكّم فيها ضوابطٌ وقيودٌ عديدةٌ، في حين تجسّد الطبيعةُ الانفتاحَ واتّساعَ الأفقِ.

الخاتمة:

      جسّدت، كما لاحظنا، مسألةُ الحريّة العمودَ الفقريَّ لديوان مقامات الوجد. فهي حاضرةٌ في الجوانب الهيكليّة، وكذلك في مضمون القول الشعري. وقبل ذلك كلّه، هي كانت هاجساً فكريّاً لدى الشاعرة. فهي الباعثُ الأساسي للإبداع. فدون الحرية لا يمكن أن تُجاهر بشعرها أوّلا، ولا يمكنها أن تضيف جديداً إلى ما تراكم من تجارب في هذا المضمار، في المحلّ الثاني. فالشاعرُ، المقلّد أو المتّبع لسُنّة من سبقوه، ليس حرّاً في ما يكتب، بل هو مقيّدٌ أيّما تقييد بالتراث وبالقواعد المرسومة سلفاً، ولربّما بإيديولوجا ما تفرضُ عليه السير في مسلك محدّدٍ. وقد اختارت الشاعرة ريم السيّد السباحة عكس التيار، فرفعت راية التجديد وكسر المحنّط ومخالفة السائد والمألوف. وقد أصابت في ذلك، لأنّ الأفق التاريخي يتطلّب مزيداً من الحرّية. فمتلقّي الأدب عامّة لم يعد يرتضي التكرار واجترار القديم، ولم تعد تعنيه الجماليّات الشكليّة ذات التصميم الهندسي. لقد بات التمرّد هو ما يجذبه، لأنّه يجد فيه صدى لذاته، ولأنه أقرب إلى واقعه وإلى رؤيته للعالم.  

المصادر والمراجع

  1. المصادر:
  2. السيد، ريم، مقامات الوجد، دار الفارابي، ط،1، بيروت-لبنان، 2016
  3. المراجع العربية والمعرّبة:

 – آيزر، فولف غانغ، “فعل القراءة، نظرية التجاوب في الأدب”، ترجمة حميد لحمداني والجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، فاس، المغرب، 1995.

– الدقاق، عمر، “ملامح الشعر المهجري”، مطبعة جامعة حلب، 1989.

– صمّود، حمادي، من تجلّيات الخطاب الأدبي، قضايا نظريّة”، دار قرطاج للنشر والتوزيع، تونس، 1999.

– الواد، حسين، “المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب”، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 3، 2004.

3– المراجع الغربيّة:

  • Gadamer, Hans-George, Vérité et méthode : les grandes lignes d’une herméneutique philosophique, Traduit de l’allemand par Gilbert  Merlio et  autres, Paris, Seuil, 1997.
  • Jakobson, Roman, Huit question de poétique, Paris, Seuil, 1977.
  • Robert Jauss, Hans, Pour une esthétique de la réception, Traduit de l’allemand par Claude Maillard, Gallimard, Paris, 1978.

[1] ) ريم السيّد، مقامات الوجد ، دار الفارابي، ط،1، بيروت-لبنان، 2016.

[2] ) باحث، قسم الدراسات العربية والإسلامية، جامعة جان مولان، ليون 3، فرنسا. 

[3] – « Il n’est pas désormais contestable que ce qui, par opposition, distingue l’homme de tout autre vivant, c’est que son rapport au monde se caractérise par sa liberté à l’égard de l’environnement. Une telle liberté implique la constitution langagière du monde ». Hans-George Gadamer, Vérité et méthode : les grandes lignes d’une herméneutique philosophique, Traduit de l’allemand par Gilbert  Merlio et  autres, Paris, Seuil, 1997, p. 700. 

[4] – «La Dominante peut se définir comme l’élément focal d’une œuvre d’art : elle gouverne, détermine et transforme les autres éléments. Ces elle qui garantit la cohésion de la structure». Roman Jakobson, Huit question de poétique, Paris, Seuil, 1977, p. 77. 

[5]– L’Horizon d’attente désigne « l’expérience préalable que le public a du genre dont elle relève,  la forme et la thématique d’œuvres antérieurs dont elle présuppose la connaissance et l’opposition entre langage poétique et langage pratique, monde imaginaire et réalité quotidienne ».  Hans Robert Jauss, Pour une esthétique de la réception, Traduit de l’allemand par Claude Maillard, Gallimard, Paris, 1978, p.49.

[6] – حسين الواد، “المتنبي والتجربة الجمالية عند العرب”، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط 3، 2004، ص-10.

[7] – عمر الدقاق، “ملامح الشعر المهجري”، مطبعة جامعة حلب، 1989، ص-239.

[8] – الديوان، ص-11.

[9] – الديوان، ص-17.

[10] – مفهوم الفراغ هو من الاقتراحات الهامة التي جاءت بها نظرية التلقي، ويعود في الأساس إلى فولف غانغ آيزر. انظر: “فعل القراءة، نظرية التجاوب في الأدب”، ترجمة حميد لحمداني والجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، فاس، المغرب، 1995.  

[11] – الديوان، ص-ص، 26- 25.

[12] – “التجريب يتحرّك من جماليّة تختلف عن الجماليات الكلاسيكيّة، جمالية الأعمال الكاملة التي تروقك وتروّعك بجلالها وعظيم بنائها، وتناسق أجزائها، وبما اختزنت من شريف المعاني وبليغ الألفاظ”، حمادي صمود، من تجلّيات الخطاب الأدبي، قضايا نظريّة”، دار قرطاج للنشر والتوزيع، تونس، 1999، ص-65.   

[13] – الديوان، ص-16.

[14] – الديوان، ص-30.

[15] – الديوان، ص-15.

[16] – الديوان، ص-71.

[17] – الديوان، ص-166.

[18] – الديوان، ص-ص، 45-44.

[19] – الديوان، ص-64.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى