دراساتمقالات

رواية الأجيال بين طه حسين ونجيب محفوظ

كتب علي فتح الله – رواية الأجيال بين طه حسين ونجيب محفوظ

في البداية أطلق مسمى الرواية النهرية على هذا النمط، وهذه التسمية تعد ترجمة حرفية للمصطلح الفرنسي (le roman-fleuve)، الذي أطلقه الناقد الفرنسي Romain Rolland أول من تعرض لهذا النمط من الرواية في مطلع القرن العشرين(1)، وتمثل رواية الأجيال نمطا خاصا وفريدا في تتبع وترصد اتجاهات التحول الحضارية ومساراتها؛ لأنها تجمع بين تقديم معالجة فنية متقدمة ومتشابكة من خلال تقديم رسالة فكرية وفلسفية للواقع، وملاحظة حركة التطور في بنية المجتمع وحركة التاريخ؛ فهي ذلك النوع من الروايات التى يشترك في صنع أحداثها عدد كبير من الشخصيات المنتمية إلى عدة أجيال من أسرة واحدة، راصدة التطور الحضاري والتاريخي لبنية المجتمع من خلال هذه العائلة؛ ولذلك يبرع في هذا الفن الروائي أولئك الذين ينزعون إلى تحليل الأبعاد التاريخية والسياسية والاجتماعية والنفسية، فكما يقول الناقد الفرنسي رينيه لالو Rene Lalou واصفا هذا النوع الروائي: “إنها إرادة تصوير أناس وبيئة اجتماعية في حركة تطور تحتوي على لحظات هادئة نسبيا، كما تحتوي على لحظات اضطراب وتأزم، وليس المهم فيها هو ذلك الشخص أو تلك المأساة، بل المهم هو مصير جماعة بشرية في فترة من التاريخ”(2)، فالأزمنة التي يركز عليها الروائي في رواية الأجيال أزمنة تحول تاريخي ومجتمعي.

وثمة فارق واضح بين رواية الأجيال والرواية التاريخية بالرغم من أن كلا منهما يمثل التاريخ جزءا رئيسا في بنيته، إلا أن رواية تاريخ الأسرة –خلافا للرواية التاريخية- هي رواية تكون فيها قصة تاريخ الأسرة شرطا أساسا لقيامها، ويتضح البعد التاريخي من خلال صياغة تاريخ الأسرة وتاريخ المجتمع أو الشعب، ويضاف إلى ذلك المساحة الزمنية فالرواية التاريخية ربما تعالج فترة تاريخية أو لحظة تاريخية أو حدثا تاريخيا محددا ووحيدا، لكن رواية الأجيال يتميز فيها الجانب التاريخي بأنه ممتد لايقتصر على لحظة أو حدث بقدر ما يعبر عن فلسفة تطور وترابط التاريخ؛ فكاتب الرواية التاريخية بمثابة فيلسوف مؤرخ لايضع نصب عينيه الوصف الدقيق للأحداث كما وقعت في التاريخ، إنما يسعى إلى تقديم تفسير صادق للفترة التاريخية من خلال السياق الاجتماعي والسياسي والنفسي للمجتمع. ورواية الأجيال هي الأكثر قدرة على رصد تطور أنماط الأنا والأخر لما تتمتع به من امتداد زمني ورصد لتطور الأجيال والتشابك بين ما هو فني وما هو سياسي وما هو تاريخي وما هو سيكولوجي.

ويشيع بين الدارسين أن ثلاثية نجيب محفوظ هي أول رواية أجيال أو أزمان كما كان يطلق هو عليها(3)، لكن نجيب محفوظ نفسه قد أقر أن هناك محاولات قد سبقته، بل تلك المحاولات هي ما حفزه على كتابة الثلاثية، ونص على تلك الأعمال – العربية والغربية-، التى شكلت الدافع لديه والأصل الذي استمد منه، وقد تناولت بعض الدراسات هذه المصادر التى استقى منها نجيب محفوظ فكرة ثلاثيته، مثل دراسة ناجي نجيب “قصة الأجيال بين محفوظ وتوماس مان”(4)، ودراسة سيزا قاسم “بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية محفوظ”(5)، لكن أحدا لم يلتفت إلى الأعمال العربية التى سبقت نجيب محفوظ وأشار إليها أيضا معترفها بسبقها له، وهي رواية عميد الأدب العربي طه حسين، لكن ثمة عمل آخر سبق محفوظ دون أن يتأثر به، فما هو وما قصته؟

في بحثنا هذا سنتخذ مما صرح به نجيب محفوظ لجمال الغيطاني في كتابه “نجيب محفوظ يتذكر ” نقطة ارتكاز نعتمد عليها في الروافد التى غذت محفوظ بأصول فكرة رواية الأجيال لنصل لعمله المتمثل في الثلاثية، لنتعرف على المحاولات التى سبقت الرجل.

وعند تحليل ومراجعة الروايات التى يمكن ان يطلق عليها رواية أجيال نجد –حسب ما توفر لنا- روايتين سبقتا نجيب محفوظ، وقد أشار الرجل إليهما في حديثة مع الغيطاني، احدهما تصريحا وهي رواية “شجرة البؤس ” لطه حسين، والأخرى لم يذكر اسمها ولا اسم المؤلف لكنه حكي قصته مع مؤلفاها، وعلينا نحن أن نستشف مما قاله محفوظ، ومما توفر من روايات يمكن أن يطلق عليها رواية أجيال.

يقر محفوظ عندما تحدث عن الثلاثية أن طه حسين كان أحد مراجعه التى دفعته لكتابة رواية الأجيال ” في هذه الأثناء أصدر طه حسين رواية “شجرة البؤس”، وجدتها قريبة جدا من هذا النوع، أقصد رواية الأجيال، ولكنها قصيرة إلى حد ما”(نجيب محفوظ يتذكر ص 63).

عند تحليل هذه الذكرى لمحفوظ نخلص إلى أنه لم يكن أول من كتب هذا النوع من الروايات في العربية بل سبقه طه حسين، بغض النظر عن مستوى وتقنيات الكتابة واختلافها عند الرجلين، وطه حسين متأثر في ذلك بالأدب الفرنسي الذي شاع فيه هذا النمط في النصف الأول من القرن العشرين وكان موضة سائدة في الأدب الفرنسي، إذا فرواية “شجرة البؤس” لطه حسين هي أول رواية أجيال –فيما توفر لنا من مراجع- في الأدب العربي على مافيها من قصور في بعض التقنيات.

لا شك في أن محفوظ قد تأثر بطه حسين في كتابة بعض رواياته، ولكن تظل إشكالية تأثره بطه حسين في نفور محفوظ من موقف طه حسين من الرواية إذ “كان أصحاب الروايات نفسها لا يعترفون بها، الدكتور طه حسين يكتب رواية في الصيف، لكن من طه حسين؟ إنه المفكر. العقاد يكتب سارة، لكن من هو العقاد؟ إنه المفكر. بل إن العقاد كان يحتقر القصة والرواية، إذا كان هؤلاء يحتقرون الرواية فكيف ستلتفت إليها من خلالهم.”(نجيب محفوظ يتذكر، ص43)، ولذلك كان تأثر محفوظ بطه حسين قاصرا على نمط الرواية ولم يتعداه لغير ذلك.

وهنا سنحاول المقارنة بين العملين “شجرة البؤس” و”الثلاثية”، لنقف على أوجه الشبه والاختلاف بينهما:

أولا من حيث الامتداد الزمني:

يأتي العمل الثاني الذي يشير إليه محفوظ لكنه لا يصرح بقدر ما يلقي بتلميحات تكاد تكون مفهومة، فيقول: “وفي هذه الفترة أخطأت خطأ كبيرا، لم أكرره فيما بعد أبدا في حياتي، في هذه الفترة تحدثت كثيرا عن هذا النوع من الروايات، وأفضت في شرح أفكاري، ونيتي في كتابتها يوما ما، أحد الأدباء الذين استمعوا إلي ذهب وشرع في كتابة رواية من هذا النوع، أي رواية أجيال، وأصدرها بعد ستة شهور” (نجيب محفوظ يتذكر ص 63). وعند حصر الروايات التى نشرت بعد رواية طه حسين “شجرة البؤس” عام 1944 ، ورواية محفوظ 1956 سنجد مجموعة من الروايات؛ لكن ما يمكن أن ينطبق عليه مفهوم رواية الأجيال هو ما أنتجه السحار، وعلى وجه التحديد روايتيه ” قافلة الزمان 1947″ ورواية ” الشارع الجديد 1952″، وإذا ما أضفنا إلى ذلك ما ذكره نجيب محفوظ من أنه كتب ونشر خلال ستة شهور فقط، فهذا يدل على سهولة النشر بالنسبة لهذا الكاتب الذي يتحدث عنه محفوظ، والسحار هو صاحب دار نشر نهضة مصر، وهو أيضا ناشر نجيب محفوظ، ولذلك فأغلب الظن أن محفوظ يقصد السحار، وربما يفسر لنا ذلك ما ذكره نجيب محفوظ من رد فعل السحار عندما ذهب إليه برواية الثلاثية، ورفضه نشرها بزعم أنها كبيرة الحجم ” وبعد أن أنتهيت من الثلاثية، ذهبت بها إلى السحار، كانت الثلاثية رواية واحدة عنوانها بين القصرين، أما التقسيم فله قصة أخرى، نظر سعيد السحار إلى الرواية، وتساءل، ما هذا؟ قلت: رواية جديدة.. “بين القصرين”، أمسك بالرواية، قلب صفحاتها الألف، قال .. كيف أطبع هذه؟ إن ذلك مستحيل…، لقد انتهيت من الثلاثية في أبريل 1952 ، يوسف السباعي أخذ مني “بين القصرين” كلها، وكانت نسخة مخطوطة … كان من الممكن أن تضيع لو أن هذه النسخة الوحيدة فقدت … اتصل بي، قال: سنصدر مجلة، وسننشر الرواية، ثم صدرت “الرسالة الجديدة” وبدأ نشر بين القصرين. من الذي شعر بنجاح السلسة؟ سعيد السحار، قال لي إن الرواية ناجحة، ولكن صدورها في كتاب واحد مستحيل لأنها ضخمة جدا، اقترح تقسيمها إلى ثلاثة أجزاء بدلا من ثلاث فترات، سألته: والاسم؟، قال: سمها ثلاثة أسماء. …. أذكر الفترة التى تلت رفض السحار لنشرها بأسى، كانت صدمة فظيعة، بل إهانة، خاصة عندما قال لي لحظة رؤيته لها” أيه الداهية دي؟؟”( نجيب محفوظ يتذكر ص 59-60).

إن رد فعل السحار كان مبالغا فيه وربما لو عدنا إلى رواية “الشارع الجديد التى نشرت في 1952 وألقينا نظرة عابرة على أخر صفحاتها البالغة خمس مائة ونيف يمكننا القول أن السحار انتهى من كتابتها بعد الثورة فهو يذكر احداثها وينص على تاريخ 26 يوليو 1952، وعند مقارنة تاريخ انتهاء محفوظ في أبريل والسحار في نهاية يوليو وطباعتها مباشرة نجد تقاربا في الفترة التى ذكرها محفوظ وهي ستة أشهر، مما يجعلنا على يقين أنه كان يتكلم عن السحار لا أحد أخر، ويفسر لنا أيضا رد فعل السحار المبالغ في والذي يستشعر منه التهكم عندما ذهب إليه محفوظ بالثلاثية، الرجل كان لا يريد لمحفوظ أن يسبقه لنمط جديد ويسرق منه الريادة، وعندما قام بنشرها بعد ذلك نشرها مضطرا لسببين، الأول أنها ستنشر عند غيره إلم ينشرها هو، والثاني أنها حققت انتشارا ونجاحا ويريد ان يكون له نصيب من هذا الانتشار والنجاح، فلم يكن أمامه إلا ان يرضخ للأمر الواقع ويقوم بنشرها فلجأ إلى اقتراح التقسيم لثلاثة أجزاء عل من يقرأ لا يربط بين الاجزاء او يؤخذ على محفوظ نشرها مقسمة فتخرج من إطار رواية الأجيال مثلا التى تقدم دفعة واحدة للقارئ، ولكن محفوظ بفطنته كان على يقين أن التقسيم ليس محكا لاستيعاب الثلاثية، وقد صدق حدسه في ذلك.

ونخلص من ذلك إلى أن محفوظ كان رائدا في نصه ورائدا في اكتمال الفكرة لديه أيضا، في حين أن طه حسين كان رائدا في تطبيق هذا النمط في الرواية العربية لكنه لم يتقنه إتقان محفوظ، ولذلك تعد الثلاثية فنيا أول رواية أجيال حقيقية، وإن كانت رواية “شجرة البؤس” يمكن عدها أول رواية تاريخيا.

المراجع

[1]-  لمزيد من المعلومات حول هذا النمط ونشأته في فرنسا راجع

 Aude Leblond: POÉTIQUE DU ROMAN-FLEUVE-DE JEAN-CHRISTOPHE À MAUMORT, Thèse de doctorat, UNIVERSITÉ SORBONNE NOUVELLE – PARIS III, Soutenue le 2 décembre 2010.

2- أحمد سيد محمد: الرواية الانسيابية وتأثيرها عند الروائيين العب، دار المعارف، القاهرة 1985، ص76.

3- جمال الغيطاني: نجيب محفوظ يتذكر، دار المسيرة ، بيروت، الطبعة الأولى 1980.

4- ناجي نجيب: قصة الأجيال بين توماس ونجيب محفوظ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1983.

5- سيزا قاسم: بناء الرواية: دراسة مقارنة في ثلاثية نجيب محفوظ، الهيئة العامة للكتاب، مكتبة الأسرة، 2004.

6- طه حسين: شجرة البؤس، دار المعارف، مصر.

7- عبد الحميد جودة السحار: قافلة الزمان، مكتبة مصر.

8- عبد الحميد جودة السحار: الشارع الجديد، مكتبة مصر.

9- نجيب محفوظ: الثلاثية (رواية السكرية وبين القصرين وقصر الشوق)، مكتبة مصر.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى