
تقديم بقلم / د. زينب العسال
الإسكندرية بالنسبة لمحمد جبريل:
“الإسكندرية لم تَضِعْ مِنِّي”، هكذا يُنهي جبريل مقدمة كتابه “أيامي القاهرية”، وكأنه يعتذر لرحيله عن مدينته الإسكندرية متجهًا إلى القاهرة.
كيف يطلق جبريل على سنوات فاقت الخمسين، قضاها في القاهرة، أيامًا؟
هو لا يرى في هذه السنوات تأثيرًا كبيرًا في حياته ووجدانه، الذي شكلته شوارع وحارات بحري، فضلا عن مناطق الإسكندرية بشكل عام، هذا ما سيلحظه قارئ هذا الكتاب.
“سيرتي الذاتية -على نحوٍ ما- تعبر عن الحنين، في يقيني أن الحنين دافع مهم لكل مبدع”، هكذا يعبر جبريل عن معنى كتابته للسيرة الذاتية، لكن كتاب “أيامي القاهرية” يطالعنا بسيرة غيرية، فالحديث عن أماكن وشخصيات وقضايا، هي لحمة وسدى هذا الكتاب.
أيام هذا الكتاب تختلف عما عاشه جبريل في طفولته وصباه، “ربما غاب الحنين الذي يشدني إلى أعوام العيش في بحري، بل لعلي أعترف أني لم أكن فيها مشاركًا”، كان شاهد عيان أو “شاهدًا على العصر” أو غيرهما من التسميات المتداولة. يبدأ جبريل الحديث عن القاهرة ولقائه بالشخصيات الأدبية المرموقة، حاول أن يصل إليها لتساعده في العمل الصحفي. ثمة سعد الدين وهبة، أحمد عباس صالح، نعمان عاشور، د. علي الراعي، يوسف إدريس، وغيرهم.
هل لنفو “الخالة” التي تقطن في مصر الجديدة من وجود ابن الأخت في بيتها؟
أعلنت عن ذلك -صراحة- بعد ثلاثة أيام، فالبيت لرجل غريب.
يعقب جبريل بأن لهذه الخالة التي عاشت في بيت والده إلى أن أدركها سوق الزواج دورًا في الإحساس بأن القاهرة لم تكن يومًا مكانًا يحن إليه.
أعرف مدى حب محمد جبريل للمكان، ليس أي مكان، بل الأماكن الأثرية الحميمة، أتذكر أيام التعارف الأولى، حينما كنا نتجول في مدينة مسقط القديمة وسوق مطرح ومدينة نزوى، لم أعرف يومها أن محمد جبريل كان يحتشد لكتابة عمله الإبداعي الذي أهداه لي “إمام آخر الزمان. لا ينبهر جبريل بالبنايات الحديثة الشاهقة، أو الأماكن الباذخة، قدر اهتمامه بما يحمل في طياته من عبق التاريخ، المساجد، الخنقاوات، الأسبلة، الزوايا، المقامات، الأضرحة، وكل ما هو شعبي، “هكذا أحببت حي بحري بكل ما فيه”.
الإسكندرية عند محمد جبريل هي “ب ح ر ي”:
المكان عند جبريل ليس مجانيًّا، هو مكان لمعرفة قسمات المكان: العادات والمعتقدات والتقاليد، وتلمس حياة البشر، ورسم صورة لهم، والقرب منهم، أو البعد عنهم، لكن في كل الأحوال المكان شخصية فاعلة، بالإضافة إلى أنه أحد المكونات الفنية في إبداعه.
عندما يتحدث عن بحري (الأنفوشي، والسيالة، ورأس التين) يظهر المخزون الذي ظل في داخله ووجدانه، استند إليه في كتابة رواياته “رباعية بحري، أهل البحر، زمان الوصل، قاضي البهار ينزل البحر، المينا الشرقية” وغيرها. وتطالعنا فيها حلقة السمك بملامحها جميعها، وجبريل دائم التردد على حلقة السمك.
ظهور الخرساء في حياة جبريل فجأة بعد أن عاش مع أسرة من الصيادين، هذه الشخصية الغريبة ليس فيما تعانيه من عاهة “الخرس” بل ما تمارسه في حياتها، وصار وظيفة لها. كيف تتعامل هذه المرأة مع زبائنها؟ يُجيب محمد جبريل: إنها لغة الجسد، هذه اللغة العالمية التي يُجيدها كل البشر!
بيئة الصيادين بيئة مغايرة تمامًا لبيئة الموظفين والتجار التي تربى وعاش فيها جبريل (54 شارع إسماعيل صبري)، هذا هو بيت محمد جبريل الذي عاش فيه، لكننا نعرف -لأول مرة- أنه ولد في البيت المقابل، ونقل إلى 54 شارع إسماعيل صبري بعد شهر من ولادته.
الانتقال إلى القاهرة:
سينتقل محمد جبريل بعد وفاة والديه، وإعلان أخيه الأكبر عن رغبته في انفراده بالشقة، إلى شقق أخرى. يتحول هذا الموقف باعثًا لسكن بطل رواية “الشاطئ الآخر” حاتم رضوان مع أسرة يونانية في حي العطارين، حينما كانت الإسكندرية مدينة كوزموبوليتانية يتعايش فيها كافة الجاليات الأجنبية.
لم تحظَ القاهرة باهتمام في روايات محمد جبريل، اللهم إلا القاهرة القديمة في رواية “قلعة الجبل”، ورواية “الجودرية”، ورواية “كوب شاي بالحليب” تدور أحداث الرواية في بنسيون يقع في شارع فهمي القريب من ميدان باب اللوق، كان البنسيون جامعة دول عربية مصغرة، سكنه سوريون وفلسطينيون ولبنانيون وسودانيون و-بالطبع- مصريون. بدت الحياة مغايرة تمامًا لما ألفه جبريل في الإسكندرية، لقاءات وحكايات ومناقشات في كل شيء، واهتمام بالجنس عبّر عنه صاحب البنسيون في رواية “كوب شاى بالحليب” بقوله: “كل البنسيونات تجري فيها أمور لا تليق، أما هذه الشقة فقد تحولت إلى ماخور”.
ملَّ جبريل تلك الأماكن التي عاش فيها منفردًا، كان الحل هو أن يسكن مع عمته في ضاحية حلوان، وكانت العمة قد استضافت من قبل الأخ الأصغر، لكنّ بُعدَ المكان عن جريدة “الجمهورية” وضجيج المترو حالا دون العيش في بيت العمة الحنون، ينتقل جبريل إلى منازل أخرى في جزيرة بدران والشوارع المحيطة، لكنه يتوقف أمام بيت أرض شريف، بيت الزوجية، يطيل التحدث عن عمارتي يافا وحيفا، لا تستغرب الاسم فصاحب العمارتين رجل فلسطيني، وكما سبق القول، فإن المكان يلامس وجدان جبريل، ذلك ما تحقق في قربه من شارع محمد علي الذي يقطنه العوالم والآلاتية والتدريبات استعدادًا للحفلات، عالم شديد الاختلاف عما عرفه محمد في طفولته وصباه وشبابه [ قرأت على الكمبيوتر مسودات روايته التي لم تنشر “سكة المناصرة”]، عالم أميل إلى القسوة، أو الشراسة، الجيران يقاسمون بعضهم البعض أدق التفاصيل، لم يقدر جبريل وزوجه العيش في المكان، وحين غادر الزوجان الشابان المكان، ودعهما الجيران بعبارة “والله كنتم ناس طيبين”.
في مصر الجديدة:
ينتقل جبريل إلى ضاحية مصر الجديدة يسكن في شقة وُصفت بأنها يرمح فيها الخيل بالنسبة لشقة عمارة يافا، وفي أوائل الثمانينيات ينتقل جبريل للعيش في 18 شارع سليمان عزمي إلى الآن، بيتنا الذي عشت فيه أكثر من ثلاثين عامًا، لم يكتب عن هذا البيت في قصة، ولا في رواية، بينما نقل القاص محمد إبراهيم طه إلى شقتنا أحداث روايته “توتة مائلة على نهر”.
في كل حوار يجري مع جبريل يقول: “أنا قارئ قبل كل شيء، يعترف بأن مكتبة والده كان لها الفضل الأول في تنمية موهبته وحبه للقراءة، والصنايعي في دكان الترزي الذي أرشده لقراءة سلامة موسى. وثمة مكتبة النن، ومكتبة البلدية، ومكتبات أخرى في الإسكندرية، وحينما سافر إلى القاهرة كانت دار الكتب. روى جبريل أول معرفته بإبداع نجيب محفوظ في فرع مكتبة دار الكتب بالمنيرة، ودور هذه المكتبة في مشروعه النقدي الكبير “مصر في قصص كتابها المعاصرين”، صدر الجزءان الأول والثاني، وما زال صدور الجزء الثالث متعثرًا خمس سنوات داخل دهاليز هيئة الكتاب!.
عِشْقُ الكِتَاب مرضٌ نقله لي جبريل على امتداد ما يزيد عن ثلاثين عامًا، صديقين وزوجين، حينما يزور بيت صديق، يقف طويلا أمام مكتبته، يتصفح الكتب، وعندما يقتني الكتاب يصير بينه وبين الكتاب صداقة. إذا تعبتُ في العثور على الكتاب، يصف لي حجم الكتاب، لون الغلاف، الناشر، الرف الموجود فيه الكتاب، فإذا فشلت محاولتي في العثور عليه، مد يده لأحد الأرفف، لتعود بالكتاب. ثروة جبريل تكمن في هذه المكتبة العامرة بكنوز من الكتب النادرة، والطبعات الأولى لروايات مجهولة، وكتب مهداة من زعماء سياسيين لوالده، وكتب تراث، وأعداد أولى من دوريات صدرت في القرن الماضي.
بالمناسبة: لاحظنا وجود العديد من طبعات الكتب، أهدى جبريل ما يشكل مكتبات صغيرة لأصدقاء أعزاء، كم تأثرتُ لمّا نصح بعض الأصدقاء أن يُهدي جبريل مكتبته الكبيرة لإحدى الجامعات، قال جبريل: “هذه المكتبة لزينب العسال”.
والحقيقة أنني أفدتُ من مكتبة جبريل ومصادرها، ومراجعها، كتبها، ودورياتها، جرائدها، في إنجاز رسالَتَي الماجستير والدكتوراه.
سور الأزبكية.. مكان يحبه جبريل، نزوره كثيرًا، فالمكان قريب من منزل أسرتي في حي الأزهر، نتفق -جبريل وأنا- على حبنا لهذه المنطقة، يتجه جبريل للسور، لا يمل الوقوف أمام فرشات الكتب القديمة، قد يمضي ساعات طويلة دون ملل، أشعر بالقلق عندما يزداد عدد الكتب، وتثقل الربطة في يده، أنبهه أين سنضع كل هذه الكتب؟ يتجاهل ملاحظتى، ويتحدث -متحمسًا- عن أهمية هذه الكتب في الرجوع إليها، أو أن موضوعات هذه الكتب جديدة، يجب علينا قراءتها.
تقلص حجم فرشات كتب سور الأزبكية لصالح محلات الكاسيت والصور المقلدة والملابس، وقرن جبريل حزنه لما حدث، بتذكر أسواق الكتب القديمة في البلدان التي زارها في أوروبا أو الأقطار العربية.
يحدثنى -في أكثر من مناسبة- عن الحقيبة الكبيرة التي أتى بها عند سفره إلى القاهرة، كانت مملوءة بكتب من مكتبة والده، وعندما عاكسته الظروف وجد في هذه الكتب ضالته، يصر ربطة ويتجه إلى السوق.
عندما بدأ جبريل في الإعداد لكتابه “مصر في قصص كتابها المعاصرين”، كان لا بد من التردد على سور الأزبكية، للبحث عن الجزر المجهولة في القصة القصيرة والرواية.
جيل الأربعينيات:
ذلك الجيل: يقدم جبريل شهادة خطيرة عن علاقته وعلاقة جيل الأربعينيات بعضهم البعض، أسرار يرويها لأول مرة، كنا نظن أن ذلك الجيل مغاير في علاقته وسلوكياته وآرائه لجيل الستينيات، وما شاب علاقاته من ظواهر سلبية ممثلة في الشللية، والإقصاء، والتطاحن، والبعد عن الموضوعية، وغيرها من الأمراض المنتشرة في حياتنا الثقافية اليوم!..
أذكرك بأن جبريل تناول هذا الجيل في كتابيه “آباء الستينيات” و”نجيب محفوظ صداقة جيلين” عبر فيهما عن أبوتهم له، ورأيه في كتاباتهم وعلاقته الوثيقة بهم، وحبه لهم على المستوى الإنساني.
تعرفت إلى ذلك الجيل من روايات جبريل أثناء إقامتنا في سلطنة عمان، أذكر أني أعربت عن أمنيتي في أن ألتقي الأستاذ نجيب محفوظ، وتحققت هذه الأمنية، كانت الصدفة وحدها هي التي دبرت الأمر. كنت أكتب عن الناشر وكاتب الأطفال سعيد السحار، وهي صفة لم يعرفها عنه الكثيرون، كتب السحار عشرات الكتب العلمية والحكايات والقصص والترجمات، كان الكتاب يتضمن شهادات لمن تبقى من أصدقاء الرجل، ذهبت إلى الأستاذ نجيب محفوظ في بيته، أجريت الحوار، وقامت السيدة حرمه بالتقاط عدة صور تذكارية معه.
قبل أن أقابل صاحب العبارة الشهيرة، والموجة الجديدة في الإبداع القصصي، محمد حافظ رجب، كنت قد عرفت الكثير عنه، تعجبت كيف لهذا المبدع السكندري أن يوقظ بخياله -دون أن يغادر موطنه أو يتعرف إلى الآداب العالمية، والكتابات المغايرة- خيال المبدعين الكبار، ويترك بصمة في تاريخ الأدب العربي يصعب إغفالها؟.
يرى محمد جبريل أن نجيب محفوظ أفاد مما قدمه محمد حافظ رجب، فلولاه ما كتب روايته “ثرثرة فوق النيل”. يبدأ جبريل بتصحيح مفهوم عبارة “نحن جيل بلا أساتذة” فلا يعني صاحبها أنه ينكر تلمذته على إبداع الآخرين، هذا رأي لا يصدر عن عاقل، لكن المعنى الحقيقي أن ما جاء به هذا الجيل من إبداع لم يسبقه غيره من الأجيال السابقة. أحب جبريل محمد حافظ رجب ليس لأنه بلدياته، ولكن لأن حافظ رجب كان طيبًا نقيًّا من نفس عجينة جبريل، ثمة رسائل كثيرة متبادلة بين جبريل ورجب تروي حكايات وأسرار وشت بصداقة متينة وصراحة نادرة بين الاثنين، إذا كان جبريل قد نشر بعضها في جريدة القاهرة، فإني أتمنى أن تنشر باقي هذه الرسائل.
جاء محمد حافظ رجب من الإسكندرية إلى القاهرة مثل العديد من الأدباء، ألحقه يوسف السباعي بوظيفة في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، لكن الأمور لم تسر على هوى محمد حافظ رجب، كبلت الوظيفة الفنان، وصارت عبئًا نفسيًّا عليه، والبقية أنت تعرفها عزيزى القارئ.
يعترف جبريل بأنه واجه -أحيانًا- تلك العلاقة بين أبناء جيل الأربعينيات، وبالذات مجموعة لجنة النشر للجامعيين، بالكثير من التساؤل والدهشة وعدم الفهم، وداخله شعور بالصدمة.
تبين جبريل عند إعداده كتابه “مصر في قصص كتابها المعاصرين” الذي استغرق أكثر من أحد عشر عامًا، أن رواية “في قافلة الزمان” سبقت الثلاثية، وعندما قدم مسودات الكتاب إلى نجيب محفوظ، أبدى موافقته على منهج الدراسة بعامة، لكن ملاحظته الوحيدة التي وقف عندها، هي أنه ربما “بين القصرين” تسبق “في قافلة الزمان”. يروي محمد جبريل الحكاية من أولها، وينتهي إلى القرار الذي اتخذه محفوظ بألا يطلع أحدٌ على ما ينوي إنجازه (نصيحة أتذكر أن صديقة أسدتها لي وأنا أعد بحثي لنيل درجة الماجستير). الغريب أن السحار هو الآخر يروي لجبريل أن محفوظ أدرك -لسبب ما- أن السحار بدأ في تأليف رواية الأجيال، فنصحه بالقول إن هذا النوع من القصص يحتاج إلى تجربة ومران طويل.. إنني أفضل -والحديث لنجيب- أن تؤخر الكتابة عن هذه القصة.
كنت أتابع أحاديث السحار في الإذاعة وفي الجرائد، بدا السحار إنسانًا نقيًّا صادقًا، قرأت له جزءًا من كتابه “محمد رسول الله والذين معه” في مكتبة جدي. بعد سنوات، عرفت من جبريل أنه عرف الرجل، ونمت بينهما صداقة، بدأت منذ زاره في المؤسسة الاقتصادية كي يناقشه في أعماله التي تناولها في كتابه “مصر في قصص كتابها المعاصرين”، لاحظ جبريل أن الود المفقود سمة العلاقة بين محمود البدوي وعبد الحميد جودة السحار. كان الأمر شبه معلن من جانب البدوي، صارح محمد جبريل إسرافه في العناية بأدب السحار، سواء فيما كتبه من مقالات في الصحف، أو فيما كتبه في كتابه “مصر في قصص كتابها المعاصرين”.
الحكاية طويلة، وكانت سببًا في نهاية مشروع ثقافي قدّم العشرات من مبدعي ذلك الجيل، وهو لجنة النشر للجامعيين.
تحدث كبار المبدعين عن المبدع عبد المعطي المسيري، صاحب المقهى الأدبي الشهير، استعدت ونحن نقف أمام ما تبقى من المكان القديم، حرص رموز ثقافية -في زمان جميل- على أن تتردد على مقهاه، وتشارك في الأمسيات التي كان يقيمها المسيري، لكن المسيري أراد أن يجرب حظه في القاهرة، وبخاصة بعدما نال الأديب أمين يوسف غراب قدرًا كبيرًا من الشهرة في القاهرة، ألحقه السباعي بوظيفة في المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، لكن المكافأة عجزت عن سد متطلباته واحتياجات أسرته.
كان أمين يوسف غراب قد سبق المسيري إلى لقاهرة، وحقق نجاحًا كواحد من كتاب القصة اللامعين، بينما تفوق عليه المسيري بحصيلة ثقافية معرفية، فضلا عن أن المسيري يعد قطب جماعة أدباء أبناء البحيرة، فضلا عن تردد كبار الأدباء أمثال توفيق الحكيم ويحيى حقي ومحمود تيمور ومحمد مندور وزكريا الحجاوي ويوسف السباعي ومحمود البدوي وغيرهم.
كما أتاحت قهوته ظهور العديد من المواهب الشابة من أبناء البحيرة الذين وصلت أصواتهم إلى القاهرة: محمد صدقي، وفتحي سعيد، وعبد القادر حميدة، وسليمان فياض، وخيري شلبي، ورجب البنا، وغيرهم.
كتب المسيري عشرات المذكرات للسباعي لزيادة راتبه دون جدوى، ظن الرجل أن في مقدور جبريل حل مشكلته، فتوسط جبريل وعرض مشكلة المسيري، بدا التأثر واضحًا على وجه السباعي، لكن الرجل قال في تقريرية: لم يُفلت المسيري فرصةً للإساءة لي.. فكيف تنتظر مني -وأنا بشر- أن أرد إساءته بإحسان؟.
سيظل السباعي شخصية محيرة، وهو الرجل الذي كانت بيده مقاليد أمور الثقافة في بلادنا، يمنح ويمنع نقوده على الصحف والمجلات والدوريات الثقافية، نتذكر معًا قصة محمد حافظ رجب عن الرجل المكتب وغيرها من القصص المستوحاة من انعكاس مواقف السباعي على كتابات حافظ رجب، حتى عاد الرجل إلى مدينته بعد أن عانى ظروفًا صحية قاسية، أثرت على مسيرته الإبداعية بشكل عام.
من الموضوعات الشائقة التي تناولها جبريل في أيامه القاهرية، تهمة البخل التي اتهم بها الأدباء، وأشهرهم على الإطلاق توفيق الحكيم. عرفته جيدًا عندما كتبت في ضوء ملاحظته أن الحكيم كان يستنسخ من كتبه كتبًا أخرى، بمعنى أنه كان ينتقي فصولا من كتبه، ويضمها إلى فصول من كتب أخرى، بدت الظاهرة غريبة لي، وأغراني جبريل بأن الموضوع جديد، لم يتطرق له أحد ممن كتبوا عن الحكيم. نشرت الدراسة في مجلة “عالم الكتاب”، بمناسبة الذكرى السنوية لوفاته، ورغم أن د. ماهر شفيق فريد وصف الدراسة بأنها، فإنها حصلت على أعلى مكافأة لكتاب هذا العدد، ووصل المجلة العديد من رسائل القراء من الأردن وسوريا والكويت تُشيد بالدراسة.
التصقت صفة البخل بالحكيم، حرص الرجل أن يعرف الناس عنه عادات كثيرة، منها صينية البطاطس والعصا والبيريه وراهب الفكر وحمار الحكيم وغيرها، لكن يحيى حقي ينفي هذه الصفة عن الحكيم. فالحكيم يدفع الحساب لجلسائه في ندوته، ويروي ألفريد فرج أنه اكتشف أن الحكيم نفسه كان مصدر الشائعات التي أُشيعت عنه، ولعلنا نلحظ أن الحكيم أنفق ما كان يكسبه، ولم يخلف ثروة هائلة كان من المتصور أنه كسبها من مرتبه ومكافآته والجوائز.. إلخ.
في انطلاق السيارة في شارع العروبة، يشير جبريل إلى شارع الغزالي القريب من كوبري الجلاء، ويقول: يحيى حقي يسكن في هذا الشارع.
أحببت يحيى حقي صاحب: القنديل، والبوسطجي، وكناسة الدكان، وتعال معي إلى الكونسير، أم العواجز، دماء وطين، الفراش الشاغر، من باب العشم، عنتر وجولييت، دمعة فابتسامة، ناس في الظل، عطر الأحباب، حقيبة في يد مسافر، أنشودة البساطة، خليها على الله، صح النوم.
ترك يحيى حقي مسكنه في الطابق الأخير بعمارة بمنطقة روكسي؛ حيث عانى شدة حرارة الجو، “يضع الرجل طاقية الماء المثلج على رأسه”. هكذا صور لي جبريل أستاذنا يحيى حقي، عندما كان يزوره، يدعو جبريل إلى الماء القراح، لا لبخل في طبعه، وإنما لأن جبريل تأخر في شرب الشاي.
قيل إن الرجل لم يقدم للأدباء -أثناء استضافته لهم- سوى الشاي والقهوة والماء القراح، لكن ما فعله الرجل بتبرعه بمكتبته الضخمة لجامعة المنيا أضاف إلى ما رواه جبريل من أن مبادرات ليحيى حقي تؤكد أن الرجل لم يكن بخيلا، فعندما أُصيب المبدع محمد روميش بالمرض الخطير، وعجز عن تدبير نفقات العلاج، عرض حقي على روميش أن يتكفل بمصاريف رحلة العلاج في الخارج، رفض روميش بشدة هذا العرض، وأصر على أن تتكفل الدولة بمساعدته، لكن باءت كل الجهود بالفشل في استصدار أمر السفر للعلاج، ورحل روميش عن عالمنا كما رحل عشرات الأدباء الذين لم يكن لهم حظ آخرين، سافروا فور شعورهم بالألم.
لم ينجُ نجيب محفوظ من تهمة البخل، رغم أنه كان يدفع حساب من استضافهم في ندوته بالاسم، تخيل لو أن “نجيب” دفع حساب كل حضور ندوته، كيف كان حال أسرته؟! هل كان راتبه الوظيفي يسمح بذلك؟ بلغت الشائعات حول محفوظ، ما تهامس به أحد المقربين من نجيب محفوظ -سمعت بنفسي- أن “محفوظ” يفضل تناول اللحم المفروم توفيرًا للمال.
يرى جبريل أن السحار لم يكن بخيلا، ولم يكن مطلق الكرم، يرجع ذلك لطبيعته الاقتصادية، كان يشجع أبناءه على قضاء الإجازة شريطة أن يُنفقوا عليها من جيوبهم، وكان السحار يشجع الأدباء الشبان، ويسهم في نشر أعمالهم الأولى.
ويتذكر جبريل مشروع لجنة النشر للجامعيين، وكيف أنها قدمت كلا من: نجيب محفوظ، وصلاح ذهني، والبدوي، والسحار، وأحمد زكي مخلوف، وأمين يوسف غراب، وباكثير، وعبدالحليم عبدالله، وغيرهم. وللأسف، فقد كان محمود البدوي -والرواية للسحار- وراء إلغاء المشروع، حينما أشار إلى عمارة للسحار في منشية البكري، “هذه العمارة شُيدت بفلوس الأدباء”، فألغى السحار مشروعًا قدم جيل الأربعينيات، لكنه ظل يقدم المساعدة لأبناء الأجيال التالية، مد السحار يده لكل من يستحق المساعدة بالفعل، سواء أكان أديبًا أم لا.. وعدها صدقة أو زكاة فلا ينتظر السداد.
استغرقت أولُ رحلة لجبريل ترك فيها مصر إلى موريتانيا حوالي شهر، وكان نتيجة هذه الرحلة أكثر من عشر قصص نشر معظمها في جريدة “الأهرام”، بدأها بقصة “الأكسر”. وجمعت الرحلة مجموعة كبيرة من الإعلاميين من الوطن العربي، وقد خص جبريل كروان الإذاعة الأستاذ محمد فتحي بالحديث عنه، لاحظ أثناء رفقته للأستاذ محمد فتحي في الأسواق أنه يدقق، ولا يتنازل عن حقه مهما بدا تافهًا، رد محمد فتحي على ملاحظة جبريل “الحرص على المبالغ البسيطة هو الذي يشكل المبالغ الكبيرة، السنت جزء من الدولار”.
يتساءل جبريل في نهاية هذا الفصل قائلا: هل كان الحكيم غنيًّا؟ هل كان كذلك العقاد وطه حسين؟ وهل كان نجيب محفوظ غنيًّا؟ وهل كذلك بقية الأدباء؟!
يختار جبريل “أصداف” عنوانًا لفصل في الكتاب، والحقيقة أن العنوان موفق، ففيه تروَى مواقف وحكايات وأسرار يكشف عنها لأول مرة، منها قصة كتابه قصة الثورة، ولماذا لم تتم؟ كان جبريل –وما زال- ناصريًّا، وإن لم ينتم لأي حزب، أحب عبد الناصر، وتمنى أن يقابله، ويجلس بالقرب منه، ويحادثه، فعبد الناصر، هو الأب الشرعي للجيل الذي ينتمي إليه جبريل.
صدفة أخرى، أو حكاية أخرى، يرويها جبريل: حكاية ابنة العقاد، وعلاقته بالصحفي سيد العقاد الذي حرضه على الذهاب إلى سرادق العزاء، وإغرائه بأنه يمكنه كتابة تحقيق صحفي مثير في هذا الموضوع.
مذكرات الفنانة فاطمة رشدي “قد لا يتذكرها أحد الآن” أطلق عليها سارة برنار الشرق، عرفها جبريل قبل أن يلتقي بها عبر ما رواه يحيى حقي وسعد مكاوي عن ظروف حياتها القاسية، وجلوسها في مقهى الكورسال، كانت الصدفة وحدها هي التي جمعت جبريل بالفنانة فاطمة رشدي في مكتبه، بالطبع لم يكن هو المقصود بالزيارة، كان باعث زيارتها -كما روت هي- البحث عن محرر يتولى كتابة مذكراتها. زكى الفنان والناقد التشكيلي الكبير كمال الجويلي والصحفي عبد الحميد عبد النبي جبريل لكتابة المذكرات. وضعت فاطمة رشدي شروطًا للنشر: “النشر تتولاه دار نشر كبرى، الأجر الذي أتقاضاه لا يقل عن ألف جنيه، عملية الطباعة يجب أن تكون في أعلى مستوىاتها.. فشل المشروع لأنها أصرت أن من يكتب المذكرات يجب أن يتكفل بنشرها! لم تنته قصة فاطمة رشدى مع جبريل عند هذا الحد.. ففي يوم كان جبريل فيه مسافرًا إلى الأردن، فوجئ بفاطمة رشدي تجلس في المقعد المجاور، سألها عن مشروع المذكرات، قالت: لم تنشر حتى الآن، ولكني وافقت على عرض إذاعة إسرائيل بتقديمها من خلال عمل درامي!
روت المرأة ظروفها القاسية، ومعاشها الضئيل، وأضافت: من حقي أن أعيش حياة كريمة.
أتذكر أن برنامجًا تلفزيونيًّا حاول أن يلتقي بالفنانة، لكنها رفضت الاستجابة لطرقات المذيع، استعاض المذيع عن لقائها بلقاء جيرانها، تحدثوا عن فقر المرأة وبؤسها، وأنها تعيش في عزلة ولا يعرفون من هي.. وعندما ماتت فاطمة رشدي كتبت “الأهرام”: “دفنت في مقابر الصدقة لشدة عارنا جميعًا، كأنما هي مشردة، مجهولة غير معروفة العنوان”.
لا يُمكن للصحفي الشاطر أن يلتقي شخصية مهمة لها مكانتها في المجتمع، ولا يكتب عنه خبرًا، هذا ما فعله جبريل، أما الحكاية فتبدأ عندما يصف يحيى حقي الموسيقار محمد القصبجي بأنه ملحن في يده مسطرة وبرجل ومثلث، يعشق الشكل المتماسك، والواضح الخطوط، الحسن التركيب ألحانه أقرب لفن المعمار وعليها انعقدت الآمال في تجديد اللحن الشرقي.
التسرع واللهفة ومحاولة تحقيق نجاح سريع.. قد يكون كل ذلك وراء إخفاق يتذكره المرء ليتعلم من تلك الإخفاقات.. هذا الدرس وعاه جبريل بعد أن كتب عن لقائه بالرجل في التروللي، نشر الخبر وقامت الدنيا ولم تقعد بعد أن رفع الفنان شكواه إلى أعلى السلطات.
زار محمد جبريل الرجل في شقته التي يصفها لنا بدقة، لم يعاتبه الرجل على ما فعل، لكنه لم يسند إليه كتابه ذكرياته. حرمنا نحن المحبين لهذا الرجل ولفنه من قراءة ذكرياته بالصورة التي كان يأملها، ونأملها لها.
الإسكندرية هي المكان الأثير لمحمد جبريل، ينقل إليها الأحداث السردية حتى لو لم تكن جرت بالفعل، لنتذكر رواية “الصهبة” فقد جرت أحداثها في مكان قريب من الصعيد، لكن جبريل نقل الشخصيات والأحداث إلى الإسكندرية، رواية واحدة ووحيدة كتبها جبريل كانت تدور أحداثها في إحدى قرى الدلتا “قرية السمارة”، في بوح الأسرار يروي جبريل قصة الرواية الوحيدة عن قرية تقبع في وسط الدلتا. يكتب عن لقائه بأحد أشقياء هذه القرية، وأحوال القرية، معاناة أهلها وتطلعاتهم، موقع القرية إداريًّا، والمشكلات الناجمة عن ذلك! يروي له الرجل حكايته بكل بساطة، لم يتورط في قتل أحد، ولم يسرق فقيرًا، فقد كان يسرق الأغنياء ليعطي الفقراء، نسخة روبين هود المصرية، رويت عنه حكايات ملفقة نفاها الرجل وإن ظل يتمتع بهيبة بين جميع أبناء قريته، عمل خفيرًا، لكنه ترك المهنة حينما وجد أنها لا تساعده على العيش الكريم، زرع الأرض وعمل بالتجارة، هذا التحقيق الصحفي يتحول إلى رواية “بوح الأسرار” ليقف جبريل بجوار من كتبوا عن القرية، كان تحديًا لمبدع لم يعش في القرية، لكن جبريل كعادته احتشد لكتابة هذه الرواية متعددة الأصوات التي تُروى من حكاية الرجل كل من منظوره.
يُنهي جبريل كتابه بمناقشة قضية مهمة، وهي الاستشراق التي يعدها من القضايا التي تصلح للنقاش كل حين، فما أكثر الكتب والدراسات التي تناولته، ثمة عرض لأصوله التاريخية واتجاهاته وإيجابياته وسلبياته، تناول محمد جبريل القضية في كتابه “مصر من يريدها بسوء” يعرض جبريل للآراء المؤيدة والرافضة لهذه القضية، وبجد ميلا إلى طرح القضية بموضوعية، فيعرب عن رفضه لنظرية التآمر، يصعب القول أن الاستشراق هو عين الاستعمار التي يبصر ويحدق بها، أو أنهم -أي المستشرقون- ملة واحدة يهدفون إلى غاية واحدة وهي إطفاء نور الله، ثم يعرض اجتهادات المستشرقين وآراء المفكرين العرب، أمثال بنت الشاطئ التي تقرر أن الثقافة العربية تدين للمستشرقين بجمع تراثها، وصونه من الضياع. وتسأل: وماذا لو تركوا لنا تراثنا؟ أما كنا أهلا لجمعه وصونه؟.
يذكر جبريل -بعد مناقشة مستفيضة عن دور الاستشراق- قول ميشال جحا عن المستشرقين: “إنهم -أساتذة وباحثين أكاديمين- تخصصوا في دراسة اللغة العربية والحضارة العربية والدين الإسلامي، وهم يختلفون بالتأكيد عن أولئك الذين درسوا العربية لهدف تبشيري أو سياسي أو تجسسي أو إعلامي أو دبلوماسي”.
يروي بعد ذلك علاقته بالمستشرقين، فيبدأ بالحديث عن الأب جومييه ودوره في تعريف الغرب بالأدب العربي من خلال كتاباته عن أعمال نجيب محفوظ وغيره من الأدباء، وكذلك ترجماته، ويمتزج الحديث عن الأب جومييه بالحديث عن دور دير الدومينكان بالعباسية، وفضل مكتبته الضخمة على الأدباء والباحثين والدارسين الأكاديميين، ويصف الحياة في الدير من خلال الرهبان أو ضيوف الدير، حيث الراحة والجو الروحاني والتسامح الديني الذي يعيش فيه الجميع، والزيارات المتعددة للقاهرة الفاطمية التي أحبها الأب جومييه بصحبة جبريل، وتأمل المعالم والملامح والقسمات، والحديث عن أهمية المكان تاريخيًّا.
ورغم هذه الصداقة يرفض جبريل أن يقدم الأب جومييه لمجموعته الأولى “تلك اللحظة من حياة العالم” التي ترجمها الناقد الكبير فتحي العشري، رأى جبريل في المقدمة أنها تقف في الطرف المقابل لما قدمه من تجريب. أبدى الأب جومييه استياءه مما جاء في قصة “أبناء السيد الصافي -تنفيذا لوصيته- يبحثون عن الأخوات” عن الأقراص التي يتناولها الرهبان لكبت رغباتهم الجنسية، تحدث الأب جومييه عن فلسفة الرهبنة، عندما نشرت القصة كاملة ضمن المجموعة، لم يكرر الأب جومييه ملاحظته. ثم سافر الأب جومييه، وظل جبريل يسأل عنه كل من يسافر إلى فرنسا إلى أن انقطعت أخباره.
يظل الحديث ممتدًّا عن رهبان الدومينكان، وعن علاقة جبريل بكل من جورج قنواتي، ومارك شارتييه، وجان فونتين. ويؤكد جبريل دورهم في الحياة الأدبية والثقافية في مصر والوطن العربى وحبهم للبسطاء وللثقافة العربية.
هذا كتاب -بفصوله وحكاياته وأسراره التي يذيعها جبريل لأول مرة- إضافة لمبدع يعرف متى يبوح بأسراره.