مقالات

الدلالة البصرية والحركية في رواية نوال السعداوي “الحب في زمن النفط”

     كتب حسن الحضري

 ثمة عناصر من مكونات العمل الروائي يلجأ إليها الكاتب بقصدٍ أو بغير قصدٍ، لها دلالتها التي تساهم بدرجة كبيرة في تحقيق هدف الكاتب وتوضيح رسالته التي يبثُّها من خلال روايته؛ وفي رواية “الحب في زمن النفط” للكاتبة الروائية المصرية نوال السعداوي؛ تهدف إلى نصرة المرأة وإثبات جدارتها بممارسة كثيرٍ من الأعمال التي ترى الكاتبة أن المجتمع يقصرها على الرجال، لذلك جعلت الكاتبة بطلة روايتها تعمل في مجال الحفريَّات وهو من الأعمال الشاقة على المرأة، وفي الرواية نجد العنصر البصري والحركي؛ اللذين وظَّفتهما الكاتبة بطريقة توضح الدلالة العميقة لهما؛ وتبدأ أحداث الرواية باختفاء امرأة وقيام الشرطة بالتحقيق في الواقعة؛ حيث تم سؤال زوج المرأة، ورئيسها في العمل، وأحد علماء النفس للاستفسار منه عن طبيعة الحالة النفسانية التي قد تدعو امرأة إلى الاختفاء.        

   وقد لجأت الكاتبة إلى رسم الصور البصرية والحركية بالشكل الذي تُبرِز فيه ثبات المرأة وقدراتها المتعددة، وتبيِّن فيه مثالب شريكها (الرَّجل)؛ فذكرت أنه أثناء التحقيق «ﺟﺎء خبر ﻣﻦ ﻧﺎﻇﺮ إﺣﺪى المحطات النَّائية: ﺷﻮﻫﺪت اﻣﺮأة ﺗﻬﺒﻂ إلى المركب، ﻣﻦ ﻓﻮق ﻛﺘﻔﻴﻬﺎ ﺗﺘﺪلَّى ﺣﻘﻴﺒﺔ ﺟﻠﺪﻳﺔ ﺑﺤﺰام ﻃﻮﻳﻞ، ﺗﺸﺒﻪ اﻟﻄﺎﻟﺒﺎت أو اﻟﺒﺎﺣﺜﺎت في اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ، كانت امرأة وحيدة تمامًا بلا رجل»(1)، فحرصت الكاتبة على إظهار المرأة بما يدل على نشاطها وحيويَّتها وقوتها العقلية والجسدية؛ حيث (هبطت إلى المركب) وهي صورة حركية توحي بقوة النشاط، ومعها ما تحتاجه من مؤنة الرحلة، جعلته في (حقيبة جلدية تتدلى من فوق كتفيها)، كما أظهرتها الكاتبة بصورة الفتيات الشابات (اﻟﻄﺎﻟﺒﺎت أو اﻟﺒﺎﺣﺜﺎت في اﻟﺠﺎﻣﻌﺔ)، وكذلك جرَّدتها من شريكها في المجتمع، فجعلتها (وحيدة تمامًا بلا رجل)، وفي المقابل وصفت الكاتبة ردَّ فِعل (الرَّجل)، فذكرت أن مندوب البوليس الذي يحقق في اختفاء هذه المرأة، بعد أن تلقَّى خبر هبوطها على المركب «أﺻﺒﺢ متوتِّرًا، ﻇﻬﺮت ﺣﺒﱠﺎت العَرَق ﻓﻮق ﺟﺒﻴﻨﻪ، ﺿﻐﻂ ﻓﻮق زرٍّ أﺳﻮد ﻓﺎزدادت سرﻋﺔ المروحة»(2)، فجعلت توتُّر الرجل في مقابل ثبات المرأة، كما وصفت العالم النفساني الذي استعانت به الشرطة، بأنه «ﻛﺎن ﻓﻤﻪ ﻳﻤﻴﻞ إلى اﻻﻋﻮﺟﺎج ﻧﺎﺣﻴﺔ اﻟﻴﺴﺎر، واﻟﻐﻠﻴﻮن ذو اﻟﻘﺮن الملتوي ﻳﻤﻴﻞ ﻧﺎﺣﻴﺔ اليمين، عيناه ﺷﺎﺧﺼﺘﺎن إلى أعلى قليلًا فوق الجدار»(3)، وهي صورة تنطوي على التَّهكُّم، الذي سيظهر سببه في السطور اللاحقة من هذا المقال.

     وتحاول الكاتبة إيجاد الأعذار لنفسها في رسم هذه الثنائية المتضادة التي تنتصر فيها للمرأة، فتذكر أن ذلك العالم النفساني قال عن المرأة المختفية: «اﻣﺮأة ﺷﺎﺑﺔ ﺗﻨﻄﻠﻖ في ﻋﻤﻞ ﺑﻼ ﺟﺪوى ﻣﺜﻞ جمْع ﺗﻤﺎﺛﻴﻞ ﻗﺪﻳﻤﺔ، أﻟﻴﺲ ذﻟﻚ دليلًا على المرض أو اﻻﻧﺤﺮاف؟!»(4)، هكذا ترسم الكاتبة صورة المرأة بهذا الشكل في عيون (الرَّجل)؛ ليكون لها حق الدفاع عن نفسها كامرأة وهي ترسم صورة القوة والثبات لبطلة روايتها، والصورة المضادة لشخصيات الرجال، وفي هذا الإطار تسعى إلى تأكيد موقفها، فتصف مندوب البوليس مرة أخرى بأنه «اﻧﺘﻔﺾ ﻓﻮق اﻟﻜﺮسي، دار ﺑﻪ ﺣﻮل ﻧﻔﺴﻪ ﻋﺪة دورات كالمروحة، تصلَّبت أﺻﺎﺑﻌﻪ ﻓﻮق اﻵﻟﺔ اﻟﻜﺎﺗﺒﺔ…»(5)، فالدلالة الحركية في هذه الصورة تنطوي على سرعة التأثر وعدم الثبات الانفعالي؛ ثم تعود في المقابل إلى تأكيد صورة المرأة القوية الثابتة فتقول: «في ذلك اﻟﺼﺒﺎح ﻣﻦ ﺷﻬﺮ سبتمبر ﻫﺒﻄﺖ اﻣﺮأة في رﺑﻴﻊ اﻟﺸﺒﺎب إلى المركب، ﻛﺎﻧﺖ تلفُّ شعرها اﻷﺳﻮد اﻟﻐﺰﻳﺮ في ضفيرتين طويلتين، ﺗﺪوران ﺛﻼث ﻣﺮات ﺣﻮل رأﺳﻬﺎ وﺗﻠﺘﻘﻴﺎن ﻓﻮق ﺟﺒﻴﻨﻬﺎ في ﻋﻘﺪة ﻛﺒرية، ﺟﺴﻤﻬﺎ ﻃﻮﻳﻞ ﻧﺤﻴﻒ داﺧﻞ ﺛﻮب واﺳﻊ إلى ﻣﺎ تحت الركبتين، يطلُّ ﻣﻦ ﺗﺤﺘﻪ سروال واﺳﻊ ﻃﻮﻳﻞ ﻳﻨﺘﻬﻲ ﺑﺮﺑﺎط ﻣﺸﺪود أعلى القدمين، ﻣﻦ ﻓﻮق ﻛﺘﻔﻬﺎ ﺗﺘﺪلى ﺣﻘﻴﺒﺔ ﻟﻬﺎ حزام جلدي ﻃﻮﻳﻞ، تشدُّ ﺑﻴﺪﻫﺎ ﻓﻮق اﻟﺤﺰام، وتمضي في ﻃﺮﻳﻘﻬﺎ ﺑﺨﻄﻮات واﺳﻌﺔ، ﻋﻴﻨﺎﻫﺎ إلى أعلى، ﺗﺒﺪو كالمُوشكة على اﻻﻧﻄﻼق ﻧﺤﻮ ﻣﺮاﻛﺐ اﻟﺸﻤﺲ»(6).  

   إن هذا الحرص على رسم الثنائيات المتضادة في الصورة والحركة؛ يكشف الدلالة البصرية والحركية التي تعمِد إليها الكاتبة في سياق هدفها الذي يتمثل في نُصرة المرأة، التي ترى الكاتبة أنها مظلومة من الرجل، في حين أنها تستطيع أن تقوم بما يقوم به الرجل من أعمال شاقة، لذلك تحرص الكاتبة على ذكر تفاصيل عمل هذه المرأة: «ﻓﺘﺤﺖ الباحثة اﻟﺤﻘﻴﺒﺔ وأﺧﺮﺟﺖ اﻟﺨﺮﻳﻄﺔ، اﻧﺤﻨﻰ ﺟﺴﻤﻬﺎ ﻓﻮق اﻷرض، ﺑﺪت لمن ﻳﺮاﻫﺎ ﻣﻦ ﺑﻌﻴﺪ أﻧﻬﺎ ﻣﻘﺒﻠﺔ على النوم، ﻟﻜﻨﻬﺎ اﺳﺘﻐﺮﻗﺖ طويلًا في تحديد المكان، ﻋﺜﺮت على بقعة حدَّدتها ﺑﺎﻟﻘﻠﻢ، أﻣﺴﻜﺖ اﻹزﻣﻴﻞ وﺣﻔﺮت»(7)

   وبين الحين والآخر تستحضر الكاتبة مواقف مما ترى أنَّها تحمل ظلمًا للمرأة، ثم تستطرد في الدفاع عن قضيَّتها؛ فحين تقدَّمت الباحثة بأوراقها للعمل في مجال الحفريات قالوا لها: «هذا القسم لا يقبل إلا الذكور، فالعمل غير ملائم»(8)، ولم تذكر الكاتبة هذا الموقف إلا بعد أن أطنبت وأسهبت في رسم صورٍ من نجاح الباحثة في هذا العمل، أما موقفها مما قِيل لها والرفض الذي قوبلت به؛ فقد أجابت بقولها: «كانت خالتي تحفر الأرض، وأمي أيضًا تحفر الأرض، وتزرع»(9)، فالكاتبة تستشهد بطبيعة الحياة قبل عصر النفط، فتستحضر صور التعاون بين الرجل والمرأة؛ كانت المرأة تساعد الرجل في شؤون العمل والحياة، حتى كانت تعمل معه في الحقل، تزرع وتحصد؛ وفي استدعاء صور التعاون بين شريكي الحياة؛ مزيد من الإنكار من قِبَل الكاتبة لِما ترى أن المرأة تتعرض له في عصر النفط مِن قِبَل الرجل؛ من محاولةٍ لإقصائها عن بعض الأعمال بحجة أنها أعمال لا تناسب المرأة؛ وذلك في سياق التَّذرُّع بالحجة والبرهان مِن قِبَل الكاتبة، بما يُبيح لها الاستطراد في رسم الثنائيات المتضادة من الصور البصرية والحركية للرجل والمرأة.      

    وبينما تحرص الكاتبة على وصف المرأة بالنشاط والحيوية والحركة؛ تصف الرجل بأنه «متكوِّر ﺣﻮل ﻧﻔﺴﻪ ﻣﺜﻞ اﻟﻄﻔﻞ اﻟﻴﺘﻴﻢ، ﻣﺴﺘﺴﻠﻢ ﻟﻠﻨﻮم ﻓﻴﻤﺎ ﻳﺸﺒﻪ اﻟﻴﺄس»(10)، وفي موقف آخر ترسم الكاتبة صورة للمرأة وهي تساعد الرجل «اﻧﺰﻟﻘﺖ ﻗﺪﻣﻪ ﻓﺠﺄة وﺳﻘﻂ ﻓﻮق وﺟﻬﻪ، ﺳﺎﻋﺪﺗْﻪ في اﻟﻨﻬﻮض، ﺗﻨﻔﺾ اﻟﻐﺒﺎر ﻋﻨﻪ، ﻟﻜﻨﻪ دﻓﻌﻬﺎ بعيدًا وﻋﻀﻼت وﺟﻬﻪ تتقلَّص»(11)، وهي صورة عكسية للواقع المتعارَف عليه حيث المعتاد أن الرجل هو الذي يساعد المرأة، فقصدت الكاتبة إلى إيجاد صورتها العكسية في إطار انتصارها للمرأة من الرجل، لذلك ذكرت في سياق هذه الصورة أن الرجل اتهم المرأة بأنَّ وقوفها في طريقه هو الذي جعله يقع على الأرض، ثم بادرت الكاتبة بِدَفع هذه التهمة فقالت: «ﻛﺎﻧﺖ واﻗﻔﺔ ﺑﻌﻴﺪة ﻋﻨﻪ، ﻻ ﻳﻤﻜﻦ ﻣﻬﻤﺎ ﺣﺪث أن ﺗﻜﻮن ﺳﺒﺐ وﻗﻮﻋﻪ؛ ﻟﻜﻨﻪ ﻛﺎن عاجزًا ﻋﻦ إدراك آﺧﺮ، ﻛﺎن ﻳﺆﻣﻦ بأنه إذا أﺻﺎﺑﻪ شر ﻓﻬﻮ ﻣﻦ المرأة، وإن أﺻﺎﺑﻪ خير فمِن ﻧﻔﺴﻪ»(12)، هكذا ترسم الكاتبة صورة جديدة لِظُلم الرجل للمرأة.

   وفي سياق الدلالة الحركية يظهر الرجل في هذه الرواية بصورة الكسول الضعيف «ﺑﺪأ يضرب اﻷرض ﺑﺎﻟﻔﺄس، ضرﺑﺔ وراء ضرﺑﺔ، ﺣﺮﻛﺔ ﺛﻘﻴﻠﺔ ﺑﻄﻴﺌﺔ، ﺛﻢ ﻳﻠﻘﻲ اﻟﻔﺄس جانبًا، ﻳﺘﺜﺎءب، ﻳﻤﺴﺢ عرَقه بكُمِّ ﺟﻠﺒﺎﺑﻪ، ﻳﻤﻸ القفَّة ﺣﺘﻰ اﻟﺤﺎﻓﺔ، ﻳﺮﻓﻌﻬﺎ على مهل بحركة متثاقلة، ﺛﻢ يُفرغها في البرميل»(13)، أما المرأة فتظهر بكل نشاط وقوة «رفعت البرميل بذراع واحدة، ووﺿﻌﺘﻪ ﻓﻮق رأﺳﻬﺎ، الْتَوَت ﻋﻀﻼت ﻋﻨﻘﻬﺎ ﺗﺤﺖ الثِّقل، ﻟﻜﻨﻬﺎ ﻋﺎدت واﻋﺘﺪﻟﺖ»(14)، فالرجل كما تصوره الكاتبة سريع التعب، يعاني من الجهد في رفع القفَّة وإفراغها في البرميل، أما المرأة فتحمل ذلك البرميل (الذي يتسع لأكثر من قفَّة) بذراع واحدة دون تعب أو معاناة.

وتمضي الرواية في أحداثها، التي تدور في دائرتين اثنتين: الأولى دائرة التحقيق في غياب باحثة الحفريات عن بيتها، والثانية دائرة عملها في البحث والاستكشاف، وتتنقل الكاتبة بين الدائرتين أحيانًا، وأحيانًا تُزاوج بينهما في سياقٍ سرديٍّ واحد، وفي الحالتين تحرص الكاتبة على رسم الثنائيات المتضادة بصريًّا وحركيًّا، لصالح المرأة والانتصار لها من الرجل، الذي ترى الكاتبة أنه يظلمها.     

الهوامش:

1- الحب في زمن النفط، نوال السعداوي (ص15)، طبعة: مؤسسة هنداوي، 2017م.

 2- المصدر السابق (ص16).

 3- المصدر السابق.

 4- المصدر السابق.

 5- المصدر السابق.

6- المصدر السابق (ص17).

 7- المصدر السابق (23).

 8- المصدر السابق (ص26).

9- المصدر السابق.

 10- المصدر السابق (ص35).

 11- المصدر السابق (ص36).

 12- المصدر السابق.

 13- المصدر السابق (ص40).

 14- المصدر السابق.

Al-Naqd. النقد

موقع النقد موقع ثقافي يختص باللغة والأدب والثقافة ويمكنكم التواصل معنا للاستفسار على البريد الإلكتروني arabicnaqd@gmail.com في انتظار مشاركاتكم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى